تقرير خاص – منصة البوصلة
في الوقت الذي تواصل فيه حكومة الوحدة الوطنية حملات الإنفاق العلني، أعلن مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، دون سابق إنذار، خفض قيمة الدينار الليبي أمام الدولار بنسبة 13.3%، ليقفز سعر الصرف الرسمي من 4.48 إلى 5.56 دينار مقابل الدولار، في قرار حمل توقيع الإدارة الجديدة للمركزي برئاسة المحافظ ناجي عيسى ونائبه مرعي البرعصي، في أول اختبار حقيقي لهيكلية التوافق الهشة التي بُنيت عليها “إعادة توحيد المصرف”.
ورغم أن الخطاب الرسمي يبرر القرار بضغوط السوق وشح الإيرادات، تشير معطيات حصلت عليها “البوصلة” إلى أن خفض العملة جاء نتيجة تسوية ضمنية غير معلنة بين أطراف متصارعة داخل السلطة، مقابل تمرير حزمة من الاعتمادات ورفع القيود على تغطية مستندات برسم التحصيل لصالح شبكات تجارية نافذة، جزء كبير منها مرتبط برجال أعمال محسوبين على مراكز قوى في غرب البلاد.
اللافت أن قرار الخفض جاء بعد 6 أشهر من إزاحة الكبير مؤقتاً من الواجهة وتعيين إدارة جديدة للمركزي ضمن ما عُرف باتفاق “المحاصصة الثلاثية” بين الشرق والغرب والجنوب.
في اجتماع علني عُقد يوم الثلاثاء، حاول رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة أن ينأى بنفسه عن تداعيات خفض الدينار، مركّزًا على ما وصفه بـ”التجاوزات” في ملفات أخرى.
وخلال كلمته، صرّح الدبيبة أن حكومته لم تستخدم سوى 10% من العملة الصعبة، متهمًا المصارف بامتصاص باقي المخصصات، مهاجمًا من وصفهم بـ”التجار الفاسدين الذين كانوا يتحصلون على مليارات مقابل حاويات فارغة وطماطم فاسدة”.
وقد طغت العصبية على خطاب الدبيبة الذي بدا حادًا وشعبويًا أمام وزرائه الذين ظلوا صامتين طوال الجلسة، فيما كرر ضرب الطاولة والنقر عليها أكثر من مرة أثناء حديثه، ما أضفى على المشهد توترًا ظاهرًا نقلته الكاميرات بشكل لافت.
كما انتقد الدبيبة عضو المجلس الرئاسي موسى الكوني بعد زيارته إلى واشنطن، مشيرًا إلى أنه صرف 700 ألف دينار “ليهاجم الحكومة من هناك”، متسائلًا بسخرية عن نوع المياه التي شربها هناك.
لكن اللافت في خطاب الدبيبة، هو تبنّيه غير المباشر لفكرة الإنفاق الموازي، حيث أكّد أن ميزانية حكومته البالغة 123 مليار دينار شملت الجيش في الشرق والغرب ومجلسي النواب والدولة والنائب العام، متسائلًا في لهجة تحدٍ: “لماذا لم يتم التحقيق في الـ59 مليار إنفاق موازي؟”، في اعتراف ضمني بأن مسار الإنفاق خرج عن إطار السيطرة القانونية.
وفق مصادرنا، فإن قرارات المركزي الأخيرة جاءت ضمن تنسيق غير معلن مع أطراف نافذة في حكومة الوحدة، بهدف تخفيف الضغط على منظومة الاعتمادات وتأمين تغطية احتياجات السوق ما بعد شهر رمضان فى الستة أشهر القادمة ، لكن تداعيات الخطوة كانت أكبر من المتوقع، وسط حالة من التململ الشعبي والقلق لدى القطاع التجاري والمصرفي، خصوصًا بعد الحديث عن احتمالية فرض رقابة دولية على التحويلات الليبية
المؤشرات الأولية من السوق الموازية تظهر ارتفاعًا تدريجيًا في سعر الدولار، يقابله صمت من المركزي، ما يُفسر بأنه اختبار لتحمّل الشارع لتبعات القرار، أو تمهيد لموجة ثانية من التخفيض.
قرار خفض الدينار لم يكن ماليًا بحتًا، بل نتاج تسوية سياسية معقّدة داخل شبكة الحكم، هدفها تقاسم النفوذ داخل مؤسسة المال، وتحييد البنك المركزي عن كونه رقيبًا إلى كونه لاعبًا.
لكن الثمن يبدو باهظًا: فقد اهتزت الثقة بالمؤسسة المالية الوحيدة التي كانت صامدة، وبدأت مؤشرات التصعيد الاجتماعي بالتصاعد، وسط فراغ سياسي ومؤسسي تتسع دائرته يومًا بعد يوم