Categories

تقرير تحليلي: “سادة الأعماق”… كيف هـ.ـبطت ليبيا إلى أسـ.ـفل الـ.ـقاع؟

في رواية “سادة الأعماق” الخيالية للراحل د. نبيل فاروق، اختطف “سادة الأعماق” – وهم مخلوقات غريبة لديها إمبراطورية في الأعماق – ابنة بطل القصة وهبطوا بها إلى قاع المحيط، مستخدمينها كورقة ضغط لتحقيق أهدافهم.

أما في المشهد الليبي الحالي، فإن “سادة الأعماق” ليسوا مجرد شخصيات خيالية، بل هم أطراف سياسية وعسكرية اختطفت وطناً بأسره، وهبطت به إلى قاع الفوضى والانهيار.

الأجسام السياسية المتهالكة

من التفاوض إلى الاستنزاف يتربع على قائمة “سادة الأعماق” الأجسام السياسية المتهالكة التي تستهلك موارد الدولة دون تقديم أي حلول حقيقية للأزمة المستمرة منذ سنوات.

مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بدلاً من إنهاء الانقسام، استمروا في تبادل الاتهامات وصراعات المصالح.

أما المجلس الرئاسي وحكومة عبد الحميد الدبيبة، فقد برعوا في الإنفاق غير المسؤول عبر التعيينات المبنية على الواسطة والمحسوبية، والرحلات الخارجية المتكررة، بينما يعاني المواطن الليبي من الفقر وتردي الخدمات الأساسية.

المجلس الرئاسي

واجهة شكلية وترسيخ للفسادرغم أن المجلس الرئاسي كان يُفترض أن يكون جسرًا لتحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسامات، إلا أنه تحول إلى واجهة شكلية عاجزة عن تنفيذ أي خطوات جدية في هذا الاتجاه.

بدلاً من تحقيق التوافق الوطني، غرق المجلس في الفساد الإداري والمالي، حيث خصص ميزانيات ضخمة للإنفاق على السفريات الخارجية المتكررة دون نتائج ملموسة، وعمل على تكديس العشرات من المستشارين والموظفين في مناصب برواتب مرتفعة دون حاجة فعلية إليهم.

فشل المجلس في إطلاق مشروع مصالحة وطنية حقيقي يجمع الفرقاء الليبيين على طاولة واحدة، بل اكتفى بخطابات شكلية دون خطوات تنفيذية جادة. كما اتسم دوره بالضعف أمام الصراعات السياسية المتفاقمة، مما جعله عاجزًا عن اتخاذ قرارات حاسمة في القضايا الوطنية الكبرى.

في ظل هذا الأداء الهزيل، أصبح المجلس الرئاسي جزءًا من المشكلة وليس الحل، حيث يرسخ الفساد بدلًا من محاربته، ويساهم في إطالة عمر الأزمة بدلاً من العمل على حلّها.

حكومة الدبيبة: تناقضات وإشعال الفتن

اعتمدت حكومة الدبيبة على اللعب بالمتناقضات، مما أدى إلى تصعيد التوترات في عدة مناطق.

في الزاوية: أطلقت الحكومة عملية عسكرية بحجة مكافحة التهريب والجريمة، ما تسبب في اضطرابات وتهديدات بتصعيد الأوضاع الأمنية.

مع الأمازيغ: توترت العلاقة بشكل غير مسبوق مع المجلس الأعلى للأمازيغ، مما أدى إلى تهديدات بالتصعيد العسكري.

في مصراتة: برزت انقسامات داخلية نتيجة التجاذبات السياسية، واستمرت القطيعة التامة مع الشرق الليبي، مما عمّق الشرخ الوطني.

تغول التيار الإسلامي الراديكالي

شهدت ليبيا تغولاً غير مسبوق لنفوذ تيار الإسلام السياسي الراديكالي بزعامة الصادق الغرياني، الذي استغل الدين لتحقيق مكاسب سياسية، ما أدى إلى تأجيج الصراعات الداخلية وزيادة حالة الاستقطاب.

اختطاف وتسليم المواطنين لجهات أجنبية

في سابقة خطيرة، تم اختطاف ضابط مخابرات ليبي سابق (أبوعجيلة مسعود) من منزله وتسليمه إلى جهة أجنبية على خلفية قضية لوكربي المغلقة منذ سنوات، مما أثار غضباً واسعاً ومطالبات بالتحقيق في هذه الانتهاكات للسيادة الوطنية.

فتح قنوات مع إسرائيل

في أغسطس 2023، تم فتح قنوات اتصال بين حكومة الدبيبة وإسرائيل عبر لقاء جمع وفداً حكومياً ليبياً بوزير الخارجية الإسرائيلي، مما أثار جدلاً كبيراً وأشعل موجة غضب سياسي وشعبي، وسط رفض واسع لأي شكل من أشكال التطبيع.

قمع الحريات والإعلام

اتبعت الحكومة خطاباً شعبوياً متدنياً جعل ليبيا أضحوكة دولية، إلى جانب تصعيد قمع الصحفيين والنشطاء. كما أنشأت هيئة غامضة لمراقبة الإعلاميين المعارضين تحت ذريعة “رصد خطاب الكراهية”، واستخدمت الجيوش الإلكترونية لاختراق الصحف والمواقع المستقلة.

المليشيات المسلحة

من حماية الثورة إلى مافيات منظمة المليشيات المسلحة، التي يفترض أنها تشكلت لحماية الثورة، تحولت إلى مافيات منظمة تسيطر على القرار السياسي والاقتصادي من وراء الكواليس.

هذه الجماعات لا تتردد في تبادل القذائف داخل الأحياء السكنية لتحقيق مكاسبها الخاصة، مما يزيد من معاناة المواطن. في الوقت نفسه، تتكدس بالأسلحة والأموال، وتنمو شبكات نفوذها الداخلية والخارجية، مما يزيد من تعقيد الأزمة.

السفارات الليبية في الخارج

بوابة الفساد الكبرى تحولت العديد من السفارات الليبية في الخارج إلى بؤر للفساد المالي والإداري، حيث يتم تعيين أشخاص غير مؤهلين، مما أدى إلى تراكم الفضائح والتجاوزات، وعكس صورة مشوهة عن ليبيا في المحافل الدولية.

المؤسسات السيادية

مراكز نفوذ لا تخدم الدولةالمؤسسات السيادية، التي يُفترض أن تكون مستقلة، أصبحت أدوات في يد مجموعات النفوذ، حيث يتم التلاعب بالموارد الوطنية واستخدامها لخدمة أجندات خاصة بدلاً من دعم استقرار الدولة وتنميتها.

الخلاصة

غرق أعمق مع كل يوم“سادة الأعماق” ليسوا مجرد فاعلين سلبيين؛ بل هم المحرك الرئيسي الذي يدفع ليبيا إلى مزيد من التدهور. من الأجسام السياسية الفاشلة إلى المليشيات المسلحة التي تسيطر على مفاصل الدولة، ومن السفارات الغارقة في الفساد إلى المؤسسات السيادية التي تحولت إلى مراكز نفوذ، كل هذه الأطراف تعمل كمنظومة متكاملة لتعميق الأزمة واستنزاف البلاد. إذا لم تُكسر هذه الحلقة المفرغة، فستظل ليبيا غارقة في الأعماق التي قادها إليها هؤلاء “السادة”، والحل لن يكون إلا عبر إرادة سياسية حقيقية وتكاتف وطني لإنقاذ البلاد من براثن الفوضى والمحسوبية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني