في الوقت الذي اختيرت فيه المملكة المتحدة لتحليل الصندوق الأسود للطائرة التي كانت تقل رئيس الأركان محمد الحداد ورفاقه، تجاوز الجدل حدود التحقيق التقني ليصل إلى عمق العلاقات التاريخية المعقدة بين بريطانيا وليبيا. القرار الذي بدا رسمياً وفنياً في ظاهره، أثار في الشارع الليبي موجة من الشكوك المرتبطة بتاريخ طويل من التدخلات البريطانية وملفات مالية وسياسية لم تُطوَ صفحاتها بعد.
بعد العثور على الصندوق الأسود للطائرة المنكوبة في تركيا، كان من المقرر أن تتولى ألمانيا تحليل بياناته، إلا أن الأخيرة اعتذرت لعدم توفر الإمكانيات الفنية، مما فتح الباب أمام خيارات بديلة. في اجتماع مشترك بين الفريق الليبي المعني بالتحقيق والسلطات التركية، تم الاتفاق بالإجماع على إرسال الصندوق الأسود إلى بريطانيا لإجراء التحليل، بوصفها جهة محايدة ذات قدرات تقنية عالية.
لكن القرار أثار ردود فعل متباينة في الشارع الليبي، تتراوح بين القبول المتحفظ والرفض القاطع، خاصة في ظل تاريخ طويل ومعقد من التفاعل البريطاني مع الشأن الليبي.
تاريخ من التوتر والتدخلات
العلاقات بين ليبيا وبريطانيا لم تكن سلسة تاريخياً. في الثمانينيات شهدت توتراً كبيراً بعد حادثة مقتل الشرطية البريطانية إيفون فليتشر قرب السفارة الليبية في لندن عام 1984، ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. بعد سنوات من القطيعة، عادت العلاقات إلى مسار دبلوماسي خلال حكم القذافي، خاصة بعد قرار ليبيا التخلي عن برنامجها للأسلحة غير التقليدية في 2003.
لكن الفصل الأكثر إثارة للجدل في العلاقات الحديثة جاء عام 2011، عندما تدخلت بريطانيا عسكرياً إلى جانب حلف الناتو، مما أدى إلى سقوط نظام القذافي. القصف البريطاني، الذي جاء تحت ذريعة حماية المدنيين، ساهم بشكل مباشر في الإطاحة بالنظام، لكنه ترك البلاد في حالة من الفوضى الأمنية والسياسية لم تنته حتى اليوم.
ملف الأصول المجمدة العالق
من بين أكثر القضايا إثارة للحساسية في العلاقات الليبية-البريطانية تبرز قضية الأصول الليبية المجمدة. بعد عام 2011، جمدت بريطانيا والدول الغربية مليارات الدولارات من الأموال الليبية بحجة حماية الثروة الوطنية من النهب. لكن بعد مرور أكثر من عقد، لا تزال معظم هذه الأموال محتجزة في البنوك البريطانية.
بريطانيا وضعت شروطاً معقدة للإفراج عن الأموال، تتعلق بالاستقرار السياسي والشفافية المالية، وهي شروط يراها كثير من الليبيين ذريعة لإبقاء الأموال تحت السيطرة البريطانية. الأمر الذي يثير الشكوك أكثر أن بعض هذه الأصول المجمدة تدار وتستثمر من قبل مؤسسات بريطانية، مما يعني أن لندن تستفيد من هذه الأموال بينما الشعب الليبي يعاني من الفقر وانهيار الخدمات.
شبكة معقدة من الأموال الليبية في لندن
على مدار السنوات الماضية، تناولت تحقيقات صحفية دولية استثمارات وأصول ليبية في المملكة المتحدة، بعضها مرتبط بشخصيات سياسية نافذة، في 16 مايو 2016، نشرت صحيفة “الجارديان” تحقيقاً أشار إلى شكوك مدعين ليبيين حول تحويل أموال عامة ليبية إلى عقارات في مناطق راقية بلندن. وفي 7 مايو 2014، تناولت صحيفة “ذا وول استريت جورنال” ملف الأصول المرتبطة بعهد القذافي، متطرقة إلى استثمارات نُسبت لشخصيات ليبية داخل السوق العقاري اللندني.
لاحقاً، أعاد مشروع “Suisse Secrets” فتح الملف من زاوية مصرفية، حيث نشر OCCRP في 24 فبراير 2022 مادة أشارت إلى شكوك محققين حول أموال يُشتبه في سحبها أو استخدامها بطرق غير مشروعة، مرتبطة بشخصيات ليبية نافذة، مع الإشارة إلى حسابات لدى Credit Suisse. كما تظهر سجلات Companies House البريطانية، السجل الرسمي للشركات في المملكة المتحدة، إدراج أسماء مرتبطة بشخصيات ليبية ضمن صفحات تعيينات وإدارات في شركات مسجلة أو منحلة.
شكوك عميقة وثقة منعدمة
يربط بعض الليبيين بين هذا التاريخ المعقد من العلاقات والملفات العالقة وبين اختيار بريطانيا لفحص الصندوق الأسود، البعض يرى أن هذه الملفات قد تستخدم كورقة ضغط سياسي أو كأداة للتأثير على التوازنات الداخلية في ليبيا، كما أن وجود أصول ليبية ضخمة على الأراضي البريطانية، وعلاقات مالية معقدة مع شخصيات ليبية نافذة، يخلق احتمالية تضارب المصالح.
على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الإعلام الليبي، انقسمت الآراء بشكل حاد، فريق يرى أن بريطانيا تمتلك الخبرة التقنية والمصداقية الدولية اللازمة، لكن الأغلبية تعبر عن قلقها العميق، مستشهدة بالتاريخ الطويل من التدخلات البريطانية والمصالح المتشابكة.
ويبقى المفتاح هو الشفافية الكاملة في نتائج التحقيقات وإشراك مراقبين دوليين متعددين، لضمان مصداقية النتائج وتخفيف المخاوف المرتبطة بأشباح الماضي التي لا تزال حاضرة في الذاكرة الليبية.





